فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
قالت المشبهة قوله تعالى: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، والذي نزيده هاهنا أن قوله: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا كان اللفظ محتملًا لهذا المعنى سقط قولهم، وأيضًا يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} [الأعراف: 127]، والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللًا بذلك الوصف.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة لأنها هي الموجبة للخوف، أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة.
المسألة الثالثة:
دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين، ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر.
المسألة الرابعة:
تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشرمن وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى قال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَآبَّةٍ والملئكة} وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب وكان الطرف الثاني أشرفها حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبهًا على الباقي، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى.
الوجه الثاني: أن قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة، وأما البشر فليسوا كذلك.
ويدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، وهذا الحكم عام في الإنسان، وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة، وأما الخبر فقوله عليه السلام: «ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا» ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها.
الوجه الثالث: أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة، ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين: الأول: قوله عليه السلام: «الشيخ في قومه كالنبي في أمته» فضل الشيخ على الشاب، وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول فالظاهر أن طاعته أكثر فكان أفضل.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة، وهي طاعة الخالق القديم الرحيم، والبشر إنما جاؤوا بعدهم واستنوا سنتهم، فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة فوجب كونهم أفضل من غيرهم.
الوجه الرابع: في دلالة الآية على هذا المعنى قوله: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة، فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى، وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين}.
فيه أربعة أوجه:
أحدها: في إقبالهم وإدبارهم، قاله ابن بحر.
الثاني: في اختلافهم، قاله ابن عباس. الثالث: بالليل والنهار، قاله ابن جريج.
الرابع: في سفرهم.
{أو يأخذهم على تخوفٍ} فيه ستة أوجه:
أحدها: يعني على تنقص بأن يهلك واحد بعد واحد فيخافون الفناء، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك.
الثاني: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا.
الثالث: على عجل، وهذا قول الليث.
الرابع: أن يهلك القرية فتخاف القرية الأخرى، قاله الحسن.
الخامس: أن يعاقبهم بالنقص من أموالهم وثمارهم، قاله الزجاج. {فإن ربكم لرءُوف رحيم} أي لا يعاجل بل يمهل.
قوله عز وجل: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظِلالُهُ}.
فيه أربعة أوجه:
أحدها: يرجع ظلالُه، لأن الفيء الرجوع، ولذلك كان اسمًا للظل بعد الزوال لرجوعه.
الثاني: معناه تميل ظلاله، قاله ابن عباس.
الثالث: تدور ظلاله، قاله ابن قتيبة.
الرابع: تتحول ظلاله، قاله مقاتل.
{عن اليمين والشمائل} فيه وجهان:
أحدهما: يعني تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة الشمال، قاله ابن عباس. لأن الظل يتبع الشمس حيث دارت.
الثاني: أن اليمين أول النهار، والشمال آخر النهار، قاله قتادة والضحاك.
{سجدًا لله} فيه ثلاث تأويلات:
أحدهما: أن ظل كل شيء سجوده، قاله قتادة.
الثاني: أن سجود الظلال سجود أشخاصها، قاله الضحاك.
الثالث: أن سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد لله خاضعة، قاله الحسن، ومجاهد.
وقال الحسن: أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد لله، فبئس والله ما صنعت.
{وهم داخرون} أي صاغرون خاضعون، قال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخرُ في مخيس ** ومنحجر في غير أرضك حُجر

قوله عز وجل: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة} أما سجود ما في السموات فسجود خضوع وتعبد، وأما سجود ما في الأرض من دابة فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن سجوده خضوعه لله تعالى.
الثاني: أن ظهور ما فيه من قدرة الله يوجب على العباد السجود لله سبحانه.
وفي تخصيص الملائكة بالذكر، وإن دخلوا في جملة من في السموات والأرض وجهان:
أحدهما: أنه خصهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة فميزهم من الجملة بالذكر وإن دخلوا فيها.
الثاني: لخروجهم من جملة من يدب، لما جعل الله تعالى لهم من الأجنحة فلم يدخلوا في الجملة، فلذلك ذكروا.
وجواب ثالث: أن في الأرض ملائكة يكتبون أعمال العباد لم يدخلوا في جملة ملائكة السماء فلذلك أفردهم بالذكر.
{وهم لا يستكبرون} يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يستكبرون عن السجود لله تعالى.
الثاني: لا يستكبرون عن الخضوع لقدرة الله.
{يخافون رَبَّهم من فوقهم} فيه وجهان:
أحدهما: يعني عذاب ربهم من فوقهم لأن العذاب ينزل من السماء.
الثاني: يخافون قدرة الله التي هي فوق قدرتهم وهي في جميع الجهات.
{ويفعلون ما يؤمرون} فيه وجهان:
أحدهما: من العبادة، قاله ابن عباس.
الثاني: من الانتقام من العصاة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)}.
هذه الآية لأهل مكة، وهم المراد ب {الذين} في قول الأكثر، وقال مجاهد: المراد نمرود بن كنعان، والأول أظهر، ونصب {السيئات} يحتمل وجهين: أحدهما أن ينصب بقوله: {أفأمن} وتكون {السيئات} على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله: {أن يخسف} بدلًا منها، والوجه الثاني أن ينصب ب {مكروا}، وعدي {مكروا} لأنه بمعنى عملوا وفعلوا، و{السيئات} على هذا معاصي الكفر وغيره، قاله قتادة، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش، أن قومًا في هذه الأمة، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم، و{تقلبهم} سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها، والمعجز المفلت هربًا كأنه عجز طالبه، وقوله: {على تخوف} أي على جهة التخوف، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر: البسيط.
تخوف السير منها تامكًا فردًا ** كما تخوف عود النبعة السفن

والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة التخوف، فقال له يا أمير المؤمنين: إن أبي يتخوفني مالي، فقال عُمر: الله كبر {أو يأخذهم على تخوف}، ومنه قول طرفة:
وجامل خوف من نبيه ** زجرُ المعلى أبدًا والسفيح

ويروى من نبته، ومنه قول الآخر: الوافر:
ألأم على الهجاء وكل يوم ** تلاقيني من الجيران غول

تخوف غدرهم مالي وهدي ** سلاسل في الحلوق لها صليل

يريد الأهاجي، ومنه قول النابغة: الطويل:
تخوفهم حتى أذل سراتهم ** بطعن ضرار بعد قبح الصفائح

قال القاضي أبو محمد: وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين: أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذًا ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع: والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل، وقالت فرقة: التخوف هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تكلف ما، وقوله: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {أو لم يروا} بالياء على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله: {أو يأخذهم}، وقوله: {أو يأتيهم} وقوله: {لا يشعرون}، ورجحها الطبري، وقرأ حمزة والكسائي: {أولم تروا} بالتاء في الموضعين، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما: أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا، والوجه الآخر أن يكون خطابًا عامًا لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفًا، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت، وقوله: {من شيء} لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله: {يتفيأ ظلاله} لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ أبو عمرو وحده {تتفيأ} بالتاء من فوق، وهي قراءة عيسى ويعقوب، وقرأ الجمهور: {يتفيأ}، قال أبو علي: إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس، فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول حميد بن ثور:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ** ولا الفيء من برد العشي تذوق

فهو على المهيع، وكذلك قول علقمة بن عبدة: الطويل:
تَتَبع أفياء الظلال عشية ** على طرق كأنهن سيوف

وكذلك قول امرئ القيس:
يفيء عليها الظل

وأما النابغة الجعدي فقال: الخفيف:
فسلام الإله يغدو عليهم ** وفيء الفردوس ذات الظلال

فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال فيء وظل، ولا يقال قبله إلا ظل فقط، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى: {ما أفاء الله} [الحشر: 7]، ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملًا على لفظ ما أو لفظ شيء، وهو في المعنى لجمع، وقرأ الثقفي {ظُلَلُه} بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء، وقوله: {عن اليمين والشمائل} أفرد اليمين وهو يراد به الجمع، فكأنه للجنس، والمراد عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر: جرير:
الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ ** قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وكما قال الآخر:
ففي الشامتين الصخر إن كان هدني ** رزية شبلي مخدر في الضراغم

والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر، أي تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن {اليمين} من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من أن {اليمين} أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال، ولذلك جمع {الشمائل}، وأفرد {اليمين}، فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلًا، ثم بعث الله الشمس عليه دليلًا فقبض إليه الظل.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة، وظلال متقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكأن الظل عن اليمين متصلًا واحدًا عامًا لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبدًا مندفعًا عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة: الظلال هنا الأشخاص هي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحيانًا عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب: البسيط.
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ** وفار للقوم باللحم المراجيل

وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر: الطويل.
تتبع أفياء الظلال عشية ** أي أفياء الأشخاص

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قد قدره، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر: الطويل:
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ** كما سجدت نصرانة لم تحنف

والداخر المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة: الطويل:
فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس ** ومنجحر في غير أرضك في حجر

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ}.
وقعت {ما} في هذه الآية لما يعقل، قال الزجاج: قوله: {ما في السماوات} يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله: {وما في الأرض من دابة} بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله: {والملائكة} ويحتمل أن يكون قوله: {والملائكة} هو الذي يعم {السماوات والأرض}، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو للحيوان أجمع، وقوله: {يخافون ربهم} عام لجميع الحيوان، وقوله: {من فوقهم} يحتمل معنيين: أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله: {من فوقهم} بقوله: {يخافون}، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق، وقوله: {ويفعلون ما يؤمرون} أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى. اهـ.